فصل: فصل: حديث أُعْطِيت جوامع الكَلِم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/وَقَـــالَ‏:‏

 فصل

الأذكار الثلاثة التي اشتملت عليها خطبة ابن مسعود وغيره، وهي الحمد لله، نستعينه، ونستغفره‏:‏ هي التي يروى عن الشيخ عبد القادر ثم أبي الحسن الشاذلي، أنها جوامع الكلام النافع‏.‏ وهي‏:‏ الحمد لله وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك أن العبد بين أمرين‏:‏ أمر يفعله الله به، فهي نعم الله التي تنزل عليه، فتحتاج إلى الشكر‏.‏ وأمر يفعله هو؛ إما خير، وإما شر، فالخير يفتقر إلى معونة الله له، فيحتاج إلى الاستعانة، والشر يفتقر إلى الاستغفار؛ ليمحو أثره‏.‏

وجاء في حديث ضماد الأَزْدِي‏:‏ ‏(‏الحمد لله، نحمده ونستعينه‏)‏ فقط،وهذا موافق لفاتحة الكتاب، حيث قسمت نصفين‏:‏ نصفًا للرب، ونصفًا للعبد، فنصف الرب مفتتح بالحمد لله، ونصف العبد مفتتح بالاستعانة به، فقال نحمده ونستعينه، وقد يقرن بين الحمد والاستغفار،كما في الأثر الذي رواه أحمد في الزهد‏:‏‏(‏أن رجلًا كان على عهد/الحسن فقيل له‏:‏ تلقينا هذه الخطبة عن الوالد عن والده، كما يقولها كثير من الناس‏:‏ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا‏)‏ فأما ‏(‏نحمده ونستعينه‏)‏ ففي حديث ضماد، ‏(‏ونستعينه ونستغفره‏)‏ في حديث ابن مسعود‏.‏ وأما ‏(‏نستهديه‏)‏ ففي فاتحة الكتاب؛ لأن نصفها للرب وهو الحمد، ونصفها للعبد، وهو الاستعانة والاستهداء، وليس فيها الاستغفار؛ لأنه لا يكون إلا مع الذنب، والسورة أصل الإيمان، والفاتحة باب السعادة، المانعة من الذنوب‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَي عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ ‏.‏

وعـن ابن عباس أن ضمـادًا قـدم مكـة وكـان من أَزْدِشنوءة‏.‏ وكان يُرْقِي من هذه الريح، فسمـع سـفهاء مـن أهـل مكـة يقولون‏:‏ إن محمدًا مجنون، فقال‏:‏ لو أني رأيت هـذا هذا الرجـل لعـل الله يشفيـه على يـدي، قـال‏:‏ فلقيـه، فقـال‏:‏ يا محمـد إني أرقي من هـذه الريـح، وإن الله يشفي على يـدي مـن شاء الله، فهـل لك‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الحمد الله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد‏)‏ قال‏:‏ فقال ‏:‏ أعد على كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال‏:‏ فقال‏:‏ /لقـد سمـعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغت قَاعُوسَ البحر، قال‏:‏ فقال هات يدك أبايعك على الإسلام، قال‏:‏ فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وعلى قومك‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ وعلى قومي‏.‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏

ولهذا استحبت، وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عمومًا وخصوصًا؛ من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك، وموعظة الناس، ومجادلتهم أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية، وكان الذي عليه شيوخ زماننا، الذين أدركناهم، وأخذنا عنهم، وغيرهم يفتتحون مجلس التفسير، أو الفقه في الجوامع والمدارس، وغيرها بخطبة أخري‏.‏

مثل‏:‏ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عنا وعنكم، وعن مشائخنا، وعن جميع المسلمين، أو وعن السادة الحاضرين، وجميع المسلمين، كما رأيت قوما يخطبون للنكاح بغير الخطبة المشروعة، وكل قوم لهم نوع غير نوع الآخرين، فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح، وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضًا، والنكاح من جملة ذلك، فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات، هو كمال الصراط المستقيم، وما سوي ذلك ـ إن لم يكن/ منهيا عنه ـ فإنه منقوص مرجوح؛ إذْ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والتحقيق أن قـوله‏:‏ ‏[‏الحمـد لله نستعينه ونستغفره‏]‏ هي الجـوامع، كما في الحـديث النبـوي، حـديث ابن مسعود ذكر ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم وخواتمه وفواتحـه، كما في سـورتي ‏[‏أبي‏]‏ فـإن الاستهـداء يدخـل في الاستعانـة، وتكـرير نحمده قـد استغني به بقـولـه‏:‏ ‏[‏الحمد لله‏]‏ ، فإذا فصلت جاز، كما في دعاء القنوت‏:‏ ‏(‏اللهم إنا نستعينك، ونستهديك ، ونستغفرك، ونؤمـن بـك، ونتـوكل عليك، ونثني عليك الخـير كله، ونشكرك، ولا نكفرك، ونخلع، ونترك من يَفْجُرُك‏)‏‏.‏ فهذه إحدى سورتي أبي، وهي مفتتحـة بالاستعانـة التي هي نصف العبد، مع ما بعدها من فاتحة الكتاب، وفي السورة الثانية‏:‏ ‏(‏اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعي ونَحْفِد، نرجو رحمتـك، ونخشي عذابك، إن عذابك الجِد بالكفار مُلْحِق‏)‏‏.‏ فهذا مفتتح بالعبادة التي هي نصف الرب، مع ما قبلها من الفاتحة، ففي سورتي القنوت مناسبة لفاتحة الكتاب، وفيهما جميعًا مناسبة لخطبة الحاجة وذلك جميعه من فواتح الكلم، وجوامعه، وخواتمه‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا‏)‏ فإن المستعاذ منه نوعان‏:‏ فنوع موجود، يستعاذ من ضرره الذي لم/ يوجد بعد، ونوع مفقود يستعاذ من وجوده؛ فإن نفس وجوده ضرر، مثال الأول‏:‏ ‏[‏أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‏]‏ ، ومثال الثاني‏:‏ ‏{‏رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 97، 98‏]‏ ، و‏(‏اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو ُأضل أو أزل أو ُأزل‏)‏‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ‏}‏ ‏[‏سورة الفلق‏]‏ ‏.‏ فيشترك فيه النوعان، فإنه يستعاذ من الشر الموجود ألا يضر، ويستعاذ من الشر الضار المفقود ألا يوجد، فقوله في الحديث‏:‏ ‏(‏ونعوذ بالله من شرور أنفسنا‏)‏ يحتمل القسمين‏:‏ يحتمل نعوذ بالله أن يكون منها شر، ونعوذ بالله أن يصيبنا شرها، وهذا أشبه، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ومن سيئات أعمالنا‏)‏ السيئات هي عقوبات الأعمال، كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 45‏]‏ ، فإن الحسنات والسيئات يراد بها النعم والنقم كثيرًا، كما يراد بها الطاعات والمعاصي، وإن حملت على السيئات التي هي المعاصي، فيكون قد استعاذ أن يعمل السيئات، أو أن تضره‏.‏ وعلى الأول ـ وهو أشبه ـ فقد استعاذ من عقوبة أعماله أن تصيبه، وهذا أشبه‏.‏

/فيكون الحديث قد اشتمل على الاستعاذة من الضرر الفاعلي، والضرر الغائي، فإن سبب الضرر هو شر النفس، وغايته عقوبة الذنب، وعلى هذا فيكون قد استعاذ من الضرر المفقود الذي انعقد سببه ألا يكون؛ فإن النفس مقتضية للشر، والأعمال مقتضية للعقوبة، فاستعاذ أن يكون شر نفسه، أو أن تكون عقوبة عمله، وقد يقال‏:‏ بل الشر هو الصفة القائمة بالنفس الموجبة للذنوب، وتلك موجودة كوجود الشيطان، فاستعاذ منها أن تضره أو تصيبه، كما يقال‏:‏ ‏(‏أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‏)‏، وإن حمل على الشرور الواقعة، وهي الذنوب من النفس، فهذا قسم ثالث‏.‏

/ وَقَالَ شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله‏:‏

فصل

في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏

‏(‏بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فَطُوبي للغرباء‏!‏‏)‏‏.‏

لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبًا يجوز تركه - والعياذ بالله، بل الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏85‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّي بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130ـ 132‏]‏‏.‏

/وقد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر، وبينا أن الأنبياء كلهم كان دينهم الإسلام من نوح إلى المسيح‏.‏

ولذا لما بدأ الإسلام غريبًا لم يكن غيره من الدين مقبولًا، بل قد ثبت في الحديث الصحيح - حديث عياض بن حمار ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُم ـ عربهم وعجمهم ـ إلا بقايا من أهل الكتاب‏)‏ الحديث‏.‏

ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبًا أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث‏:‏‏(‏فطوبي للغرباء‏)‏‏.‏ و‏(‏طوبي‏)‏ من الطيب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 29‏]‏ ، فإنه يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبًا‏.‏ وهم أسعد الناس‏.‏

أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء ـ عليهم السلام‏.‏

وأما في الدنيا فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏ ، أي‏:‏ إن الله حسبك وحسب مُتَّبِعُك وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 196‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ على اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏ ،فالمسلم المتبع للرسول‏:‏الله تعالى حسبه وكافيه، وهو وليه حيث كان ومتى كان‏.‏

ولهذا يوجد المسلمون المتمسكون بالإسلام في بلاد الكفر، لهم السعادة كلما كانوا أَتَمَّ تمسكًا بالإسلام، فإن دخل عليهم شر كان بذنوبهم‏.‏ حتى إن المشركين وأهل الكتاب إذا رأوا المسلم القائم بالإسلام عظموه وأكرموه وأعفوه من الأعمال التي يستعملون بها المنتسبين إلى ظاهر الإسلام من غير عمل بحقيقته لم يكرم‏.‏

وكذلك كان المسلمون في أول الإسلام وفي كل وقت‏.‏

فإنه لابد أن يحصل للناس في الدنيا شر، ولله على عباده نعم، لكن الشر الذي يصيب المسلم أقل، والنعم التي تصل إليه أكثر، فكان المسلمون في أول الإسلام وإن ابتلوا بأذي الكفار والخروج من الديار، فالذي حصل للكفار من الهلاك كان أعظم بكثير، والذي كان يحصل للكفار من عز أو مال كان يحصل للمسلمين أكثر منه حتى من الأجانب‏.‏

/فرسول الله صلى الله عليه وسلم - مع ما كان المشركون يسعون في أذاه بكل طريق- كان الله يدفع عنه ويعزه ويمنعه وينصره، من حيث كان أعز قريش ما منهم إلا من كان يحصل له من يؤذيه، ويهينه من لا يمكنه دفعه؛ إذ لكل كبيرٍ كبيرٌ يناظره ويُنَاوِيه ويعاديه‏.‏ وهذه حال من لم يتبع الإسلام - يخاف بعضهم بعضًا، ويرجو بعضهم بعضًا‏.‏

وأتباعه الذين هاجروا إلى الحبشة، أكرمهم ملك الحبشة، وأعزهم غاية الإكرام والعز، والذين هاجروا إلى المدينة فكانوا أكرم وأعز‏.‏

والذي كان يحصل لهم من أذي الدنيا كانوا يعوضون عنه عاجلًا من الإيمان، وحلاوته ولذته ما يحتملون به ذلك الأذي، وكان أعداؤهم يحصل لهم من الأذي والشر أضعاف ذلك من غير عوض لا آجلًا ولا عاجلًا، إذ كانوا معاقبين بذنوبهم‏.‏

وكان المؤمنون ممتَحَنين ليخلُصَ إيمانهم وتُكَفَّر سيآتهم‏.‏ وذلك أن المؤمن يعمل لله، فإن أوذي احتسب أذاه على الله، وإن بذل سعيًا أو مالًا بذله لله، فاحتسب أجره على الله‏.‏

/والإيمان له حلاوة في القلب، ولذة لا يعدلها شيء البتة‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان‏:‏ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا‏)‏‏.‏

وكما أن الله نهي نبيه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر، فكذلك في آخره‏.‏ فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم، أو يكون في ضيق من مكرهم‏.‏

وكثير من الناس إذا رأي المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام جَزَع وكَلَّ ونَاحَ، كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى‏.‏ وأن ما يصيبه فهو بذنوبه، فليصبر، إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثم يعود غريبًا كما بدأ‏)‏ يحتمل شيئين‏:‏/ أحدهما‏:‏ أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريبًا بينهم ثم يظهر، كما كان في أول الأمر غريبًا ثم ظهر؛ ولهذا قال‏:‏‏(‏سيعود غريبًا كما بدأ‏)‏‏.‏ وهو لما بدأ كان غريبًا لا يعرف ثم ظهر وعرف، فكذلك يعود حتى لا يعرف ثم يظهر ويعرف‏.‏ فيقل من يعرفه في أثناء الأمر كما كان من يعرفه أولا‏.‏

ويحتمل أنه في آخر الدنيا لا يبقي مسلمًا إلا قليل‏.‏ وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة‏.‏ وحينئذ يبعث الله ريحًا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ثم تقوم الساعة‏.‏

وأما قبل ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لاتزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة‏)‏‏.‏ وهذا الحديث في الصحيحين، ومثله من عدة أوجه‏.‏

فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق، أعزاء، لا يضرهم المخالف ولا خلاف الخاذل‏.‏ فأما بقاء الإسلام غريبًا ذليلًا في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثم يعود غريبًا كما بدأ‏)‏ أعظم/ ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ ‏.‏ فهؤلاء يقيمونه إذا ارتد عنه أولئك‏.‏

وكذلك بدأ غريبًا ولم يزل يقوى حتى انتشر‏.‏ فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة، ثم يظهر، حتى يقيمه الله ـ عز وجل ـ كما كان عمر بن عبد العزيز لما ولي، قد تَغَرَّبَ كثير من الإسلام على كثير من الناس، حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر‏.‏ فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريبًا‏.‏

وفي السنن‏:‏ ‏(‏إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها‏)‏‏.‏ والتجديد إنما يكون بعد الدروس، وذاك هو غربة الإسلام‏.‏

وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام، كما كان الأمر حين بدأ‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إليكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏ ، إلى غير ذلك من الآيات /والبراهين الدالة على صحة الإسلام‏.‏

وكذلك إذا تغرب يحتاج صاحبه من الأدلة والبراهين إلى نظير ما احتاج إليه في أول الأمر‏.‏ وقد قال له‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إليكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ‏}‏‏[‏يونس:94]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏ ‏.‏

وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة‏.‏ ففي كثير من الأمكنة يخفي عليهم من شرائعه ما يصير به غريبًا بينهم، لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد‏.‏

ومع هذا، فطوبي لمن تمسك بتلك الشريعة كما أمر الله ورسوله، فإن إظهاره، والأمر به، والإنكار على من خالفه هو بحسب القوة والأعوان‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه‏.‏/ ليس وراء ذلك من الإيمان حَبَّة خَرْدَل‏)‏‏.‏

وإذا قُدِّر أن في الناس من حصل له سوء في الدنيا والآخرة بخلاف ما وعد الله به رسوله وأتباعه فهذا من ذنوبه ونقص إسلامه، كالهزيمة التي أصابتهم يوم أحد‏.‏

وإلا فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171 ـ 173‏]‏ ‏.‏ وفيما قصه الله تعالى من قصص الأنبياء وأتباعهم ونصرهم ونجاتهم وهلاك أعدائهم عِبْرَةٌ، والله أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ ، هو خطاب لذلك القَرْن، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏ ‏.‏ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أهل اليمن الذين دخلوا في الإسلام لما ارتد من ارتد من العرب‏.‏ ويدل على ذلك أنه في آخر الأمر لا يبقي مؤمن‏.‏

قيل‏:‏ قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏ خطاب لكل من/ بلغه القرآن من المؤمنين كسائر أنواع هذا الخطاب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏ ، وأمثالها‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏55‏]‏ ‏.‏

وكلاهما وقع، ويقع كما أخبر الله ـ عز وجل ـ فإنه ما ارتد عن الإسلام طائفة إلا أتي الله بقوم يحبهم يجاهدون عنه، وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة‏.‏

يبين ذلك أنه ذكر هذا في سياق النهي عن موالاة الكفار، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ إليهودَ وَالنَّصَارَي أولياء بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَي أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَي اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ على مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ـ إلى قوله ـ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51 ـ 54‏]‏ ‏.‏ فالمخاطبون بالنهي عن موالاة إليهود والنصاري هم المخاطبون بآية الردة‏.‏ ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة‏.‏

وهو لما نهي عن موالاة الكفار وبين أن من تولاهم من المخاطبين فإنه منهم بَينَ أن من تولاهم وارتد عن دين الإسلام لا يضر الإسلام شيئًا‏.‏

/بل سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، فيتولون المؤمنين دون الكفار،ويجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، كما قال في أول الأمر‏:‏ ‏{‏فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 89‏]‏ ‏.‏ فهؤلاء الذين لم يدخلوا في الإسلام، وأولئك الذين خرجوا منه بعد الدخول فيه ـ لا يضرون الإسلام شيئًا، بل يقيم الله من يؤمن بما جاء به رسوله، وينصر دينه إلى قيام الساعة‏.‏

وأهل اليمن هم ممن جاء الله بهم لما ارتد من ارتد إذ ذاك، وليست الآية مختصة بهم، ولا في الحديث ما يوجب تخصيصهم، بل قد أخبر الله أنه يأتي بغير أهل اليمن ـ كأبناء فارس ـ لا يختص الوعد بهم‏.‏

بل قد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أليمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏38 ـ 39‏]‏ ، وهذا أيضًا خطاب لكل قرن، وقد أخبر فيه أنه من نَكَلَ عن الجهاد المأمور به عذبه واستبدل به من يقوم بالجهاد‏.‏ وهذا هو الواقع‏.‏

وكذلك قوله في الآية الأخري‏:‏ ‏{‏هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏ ‏.‏ فقد أخبر تعالى أنه من يتول عن الجهاد بنفسه أو عن الإنفاق في سبيل الله استبدل به‏.‏

فهذه حال الجبان البخيل، يستبدل الله به من ينصر الإسلام، وينفق فيه‏.‏ فكيف تكون حال أصل الإسلام من ارتد عنه‏؟‏ أتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم‏.‏

وهذا موجود في أهل العلم، والعبادة، والقتال، والمال، مع الطوائف الأربعة مؤمنون مجاهدون منصورون إلى قيام الساعة، كما منهم من يرتد أو من ينكل عن الجهاد والإنفاق‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏ ‏.‏ فهذا الوعد مناسب لكل من اتصف بهذا الوصف‏.‏ فلما اتصف به الأولون استخلفهم الله كما وعد‏.‏ وقد اتصف بعدهم به قوم بحسب إيمانهم وعملهم الصالح‏.‏ فمن كان أكمل إيمانًا وعمل صالحًا كان استخلافه المذكور أَتَمَّ‏.‏ فإن كان فيه نقص وخلل كان في تمكينه خَلل ونقص؛ وذلك أن هذا جزاء هذا العمل، فمن قام بذلك العمل استحق ذلك الجزاء‏.‏

/لكن ما بقي قرن مثل القرن الأول،فلا جُرْمَ ما بَقِي قرن يتمكن تمكن القرن الأول‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏‏.‏

ولكن قد يكون هذا لبعض أهل القرن، كما يحصل هذا لبعض المسلمين في بعض الجهات، كما هو معروف في كل زمان‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يبعث ريحًا تقبض روح كل مؤمن‏)‏ فذاك ليس فيه رِدَّة، بل فيه موت المؤمنين‏.‏ وهو لم يقل‏:‏ ‏(‏إذا مات كل مؤمن‏)‏ أن يستبدل الله موضعه آخر، وإنما وعد بهذا إذا ارتد بعضهم عن دينه‏.‏

وهو مما يستدل به على أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا ترتد جميعها، بل لابـد أن يبقي الله من المؤمنين مَنْ هو ظاهر إلى قيام الساعة‏.‏ فإذا مات كل مؤمن فقد جاءت السـاعـة‏.‏

وهذا كما في حديث العلم‏:‏ ‏(‏إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقَبْضِ العلماء‏.‏ فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا‏)‏‏.‏ والحديث مشهور في الصحاح من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

/فإن قيل‏:‏ ففي حديث ابن مسعود وغيره أنه قال‏:‏ ‏(‏يَسْرِي على القرآن فلا يبقي في المصاحف منه آية ولا في الصدور منه آية‏)‏ وهذا يناقض هذا‏.‏

قيل‏:‏ ليس كذلك‏.‏ فإن قبض العلم ليس قبض القرآن بدليل الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏هذا أوان يقبض العلم‏)‏‏.‏ فقال بعض الأنصار‏:‏ وكيف يقبض وقد قرأنا القرآن وأقرأناه نساءنا وأبناءنا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ثكلتك أمك‏!‏ إن كنت لأَحْسَبُك لمن أَفْقَه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل عند إليهود والنصاري‏؟‏ فماذا يغني عنهم‏؟‏‏)‏‏.‏

فتبين أن مجرد بقاء حفظ الكتاب لا يوجب هذا العلم، لا سيما فإن القرآن يقرأه المنافق والمؤمن، ويقرأه الأمي الذي لا يعلم الكتاب إلا أماني‏.‏ وقد قال الحسن البصري‏:‏ العلم علمان‏:‏ علم في القلب، وعلم على اللسان‏.‏ فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده‏.‏ فإذا قبض الله العلماء بقي من يقرأ القرآن بلا علم، فيسري عليه من المصاحف والصدور‏.‏

فإن قيل‏:‏ ففي حديث حذيفة، الذي في الصحيحين، أنه حدثهم عن قبض الأمانة وأن ‏(‏الرجل ينام النَّومَة، فتقبض الأمانة من قلبه‏.‏ فيظل أثرها مثل الوَكْت‏.‏ ثم ينام النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل/أثرها مثل أَثَر المْجَلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَه على رجلك فتراه مُنْتَبِرًا وليس فيه شيء‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ وقبض الأمانة والإيمان ليس هو قبض العلم‏.‏ فإن الإنسان قد يؤتي إيمانًا مع نقص علمه‏.‏ فمثل هذا الإيمان قد يرفع من صدره؛ كإيمان بني إسرائيل لما رأوا العجل‏.‏ وأما من أوتي العلم مع الإيمان فهذا لا يرفع من صدره‏.‏ ومثل هذا لا يرتد عن الإسلام قط، بخلاف مجرد القرآن أو مجرد الإيمان، فإن هذا قد يرتفع‏.‏ فهذا هو الواقع‏.‏

لكن أكثر ما نجد الردة فيمن عنده قرآن بلا علم وإيمان، أو من عنده إيمان بلا علم وقرآن‏.‏ فأما من أوتي القرآن والإيمان فحصل فيه العلم فهذا لا يرفع من صدره‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَقَالَ شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله‏:‏

فصل

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مثل أمتي كمثل الغَيْثِ، لا يدري أوله خَيْرٌ أو آخره‏)‏، فهذا قد رواه أحمد في المسند، وقد ضعفه بعض الناس، وبعضهم لم يضعفه، لكن قال معناه‏:‏ أنه يكون في آخرالأمة من يقارب أولهم في الفضل، وإن لم يكن منهم ، حتى يشتبه على الناظر أيهما أفضل، وإن كان الله يعلم أن الأول أفضل، كما يقال في الثوب المتشابه الطرفين‏:‏ هذا الثوب لا يدري أي طرفيه خير، مع العلم بأن أحد طرفيه خير من الآخر؛ وذلك لأنه قال‏:‏ لا يدري أوله خير، أو آخره، ومن المعلوم أن الله يعلم أيهما خير، إذا كان الأمر كذلك، وإنما ينفي العلم عن المخلوق، لا عن الخالق؛ لأن المقصود التشابه والتقارب، وما كان كذلك اشتبه على المخلوق أيهما خير‏.‏

/ وسئل عن حديث أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏سبعة لا تموت ولا تَفْني ولا تذوق الفناء‏:‏ النار وسكانها، واللوح، والقلم، والكرسي، والعرش‏)‏ فهل هذا الحديث صحيح أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذا الخبر بهذا اللفظ ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام بعض العلماء‏.‏ وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفني بالكلية؛ كالجنة والنار، والعرش، وغير ذلك‏.‏ ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجَهْم بن صفوان، ومن وافقه من المعتزلة، ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع سلف الأمة وأئمتها‏.‏ كما في ذلك من الدلالة على بقاء الجنة وأهلها، وبقاء غير ذلك مما لا تتسع هذه الورقة لذكره‏.‏ وقد استدل طوائف من أهل الكلام والمتفلسفة على امتناع فناء جميع المخلوقات بأدلة عقلية‏.‏ والله أعلم‏.‏

 /وَقَالَ شيخ الإسلام‏:‏

فصل

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أُعْطِيت جوامع الكَلِم‏)‏ ـ وروي ـ ‏(‏وخواتمه‏)‏ ـ وروي ‏(‏وفواتحه، وخواتمه‏)‏ وقال في حديث‏:‏ ‏(‏أعطي نبيكم جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه‏)‏‏.‏

وهذا حديث شريف جامع؛ وذلك أن الكلم نوعان‏:‏ إنشائية فيها الطلب، والإرادة، والعمل‏.‏ وإخبارية فيها الاعتقاد والعلم، وكل واحد من العلم والإرادة الذي هو الخبر والطلب فيه فروع كثيرة، وله أصول محيطة‏.‏ وهي نوعان‏:‏ كلية جامعة عامة‏.‏ وأولية علية، فالعلوم الكلية والأولية والإرادات والتدابير والأوامر الكلية والأولية هي‏:‏ جماع أمر الوجود كله‏.‏ والخبر المطلوب كله الحق الموجود، والحق المقصود؛ ولهذا كان القياس العقلي والشرعي وغيرهما نوعين‏:‏ قياس شمول، وقياس تعليل‏.‏ فإن قياس التمثيل مُنْدَرِج في أحدهما؛ لأن القدر المشترك بين المثلين إن كان هو محل الحكم فهو قياس شمول،/وإن كان مناط الحكم فهو قياس تعليل‏.‏

وذلك أن العلوم والإرادات، وما يُظْهِر ذلك من الكلمة الخبرية والطلبية إذا كانت عامة جامعة كلية فقد دخل فيها كل مطلوب، فلم يبق مما يطلب علمه شيء، وكل مقصود من الخبر، فلم يبق فيها مما يطلب قصده شيء، ثم ذلك علم وإرادة لنفسها وذاتها، سواء كانت مفردة أو مركبة‏.‏ ثم لابد أن يتعلق بها علتان‏:‏

إحداهما‏:‏ السبب وهي العلة الفاعلة‏.‏

والثاني‏:‏ الحكمة‏:‏ وهي العلة الغائية‏.‏ فذلك هو العلم والإرادة للأمور الأولية‏.‏ فإن السبب والفاعل أدل في الوجود العيني‏.‏والحكمة والغاية أدل في الوجود العلمي الإرادي؛ ولهذا كانت العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية‏.‏ وكانت هي في الحقيقة علة العلل لتقدمها علمًا وقصدًا، وأنها قد تستغني عـن المعلول،والمعلول لا يستغني عنها، وأن الفاعل لا يكون فاعلًا إلا بها، وأنها هي كمال الوجود وتمامه؛ ولهذا قدمت في قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ ‏.‏ فإذا كانت الحكم المظهرة للعلم والطلب فيها الفواتح، وفيها الخواتم، جمعت نَوْعَي العلتين الأوليين‏.‏ وإذا كانت جامعة كانت علة عامة‏.‏

/ وَقَالَ شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله‏:‏

قوله في حديث الكرب الذي رواه أحمد من حديث ابن مسعود‏:‏ ‏(‏اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن رَبِيعَ قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذَهَاب همي وغَمِّي إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله به فرحًا‏)‏‏.‏

الربيع‏:‏ هو المطر المنبت للربيع، ومنه قوله في دعاء الاستسقاء‏:‏ ‏(‏اللهم اسقنا غَيثًا مُغِيثًا، ربيعًا، مُرْبِعًا‏)‏ وهو المطر الوَسْمِي الذي يَسِمُ الأرض بالنبات، ومنه قوله‏:‏ ‏(‏القرآن ربيع للمؤمن‏)‏‏.‏ فسأل الله أن يجعله ماء يحيي به قلبه كما يحيي الأرض بالربيع، ونورًا لصدره‏.‏

والحياة والنور جماع الكمال، كما قال‏:‏ ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏ ، وفي خطبة أحمد بن حنبل‏:‏ يحيون بكتاب الله الموتي، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمي؛ لأنه/ بالحياة يخرج عن الموت، وبالنور يخرج عن ظلمة الجهل، فيصير حيًا عالمًا ناطقًا، وهو كمال الصفات في المخلوق‏.‏ وكذلك قد قيل في الخالق، حتى النصارى فسروا الأب والابن وروح القدس بالموجود الحي العالم‏.‏ والغزالي رد صفات الله إلى الحي العالم، وهو موافق في المعني لقول الفلاسفة‏:‏ عاقل، ومعقول، وعقل؛ لأن العلم يتبع الكلام الخبري، ويستلزم الإرادة، والكلام الطلبي؛ لأن كل حي عالم فله إرادة وكلام، ويستلزم السمع والبصر، لكن هذا ليس بجيد؛ لأنه يقال‏:‏ فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها؛ ولهذا كان أعظم آية في القرآن‏:‏ ‏{‏اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ ‏.‏ وهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا وهو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتفي بالحي، وهذا ينفع في الدلالة والوجود، لكن لا يصح أن يجعل معني العالم هو معني المريد، فإن الملزوم ليس هو عين اللازم، وإلا فالذات المقدسة مستلزمة لجميع الصفات‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلِمَ جمع في المطلوب لنا بين ما يوجب الحياة والنور فقط دون الاقتصار على الحياة، أو الازدياد من القدرة وغيرها‏؟‏

قيل‏:‏ لأن الأحياء الآدميين فيهم من يهتدي إلى الحق، وفيهم من لا يهتدي‏.‏ فالهداية كمال الحياة، وأما القدرة فشرط في/التكليف لا في السعادة، فلا يضر فَقْدها، ونور الصدر يمنع أن يريد سواه‏.‏

ثم قوله‏:‏ ‏(‏ربيع قلبي ونور صدري‏)‏ لأنه ـ والله أعلم ـ الحَيَا لا يتعدي محله، بل إذا نزل الربيع بأرض أحياها‏.‏ أما النور، فإنه ينتشر ضوؤه عن محله‏.‏ فلما كان الصدر حاويًا للقلب جعل الربيع في القلب والنور في الصدر لانتشاره، كما فسرته المشكاة في قوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏35‏]‏ ، وهو القلب‏.‏